إلي رحمة الله 

 

 

1 – الأستاذ محمد أسعد الإسرائيلي القاسمي السنبهلي رحمه الله

1369 – 1426هـ = 1950 – 2005م

 

 

 

 

 

     الدنيا دارُفناء ، تفني هي وكل ما فيها . ولا ضمانَ لبقاء أحد صغيرًا كان أو كبيرًا ، شابًّا كان أو شيخًا . كان الكاتب الإسلامي الأرديّ القدير الأستاذ محمد أسعد الإسرائيلي القاسمي – من سكان مدينة «سنبهل» بمديرية «مراد آباد» بولاية «أترا براديش» بالهند – لم يتجاوز من عمره 55 عامًا حتى استأثرت به رحمة الله تعالى يوم الأحد 28/ ربيع الأول 1426هـ الموافق 8/ مايو 2005م . وذلك بمستشفى بمدينة «مراد آباد» إثر نوبة قلبية ألمت به فأُدْخِلَ المستشفى . وصُلِّي عليه يوم الاثنين 29/ ربيع الأول 1426هـ بوطنه «سنبهل» بساحة كلية غصّت بالمصلين عليه ، مما يدلّ على حبّ الناس له رغم صغر سنّه بالنسبة إلى الآخرين من ذوي العلم والكتابة والتأليف . وقد قال بعض العلماء : إنه لم يشهد مثلَ هذا الزحام في جنازة أحد من العلماء من ذي قبل في مدينة سنبهل . فإنّا لله وإنا إليه راجعون .

     كان الأستاذ السنبهلي ورث العلم وحبّ الدين كابرًا عن كابر . وكان يتمتع بذكاء ثاقب ، وظرافة بالغة ، وميل كبير إلى المزاح الطريف ، في سماحة النفس ، وطلاقة الوجه، وخفّة الروح . وكان يملك قلمًا سيّالاً باللغة الأردية ، ألّف كتبًا عديدة في شتى الموضوعات الإسلاميّة ، وكتب مئات من المقالات تعالج القضايا الإسلامية المستجدة وترشد المسلمين إلى ما ينبغي أن يصنعوه من أجل الحفاظ على دينهم وعقيدتهم والعمل بما يأمر به الإسلام متكيفين مع المتغيرات ، متعاملين مع الظروف ، متخلصين من تداعيات مكر الأعداء . كما أن له مقالات وأبحاثًا حول الموضوعات الأدبية والفكرية والاجتماعية والدعوية . وكلّها تنمّ عن سعة دراسته ، واستقامة طبعه ، ومتانة أسلوبه ، وجديّة قلمه ، واقتداره على اللغة الأردية الرشيقة .

     مارأيتُه قطّ إلاّ والابتسامةُ ترقص على شفتيه، وخفّة الروح تبعثه على ممارسة المزاح . وكانت ملامحُ وجهه تنمّ عن ذكائه وفطنته ، وتشفّ لملاقيه أولَ الأمر عن أنّه شابّ غير جدّي لا يبالي بمهامّ الأمور؛ ولكنه إذا تحادث معه ، وتبادل الرأي ، وناقشه في قضيّة ، علم أنّه على جانب كبير من الاهتمام بكل ما يهمّ الإسلام والمسلمين . ولم يكن فقط عالمًا متخرجًا من الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند ؛ بل كان إلى جانب ذلك متقنًا لعلم التجويد ، وحافظًا للقرآن الكريم .

     كان يتعلّم بدارالعلوم ديوبند ، أيّامَ كنت أتعلّم فيها ؛ ولكنه كان في صفّ فوق صفّي ؛ فلم يكن زميلاً لي في الدراسة ؛ ولكنه كان معاصرًا لي في الدراسة . كنتُ أراه غاديًا رائحًا من خلال البوّابة الرئيسة للجامعة المُسَمّاة بـ«بوّابة قاسم»، ولم أكن أعرفه أكثر من أنّه طالب من طلاب الجامعة . وعندما صرتُ أستاذًا بها عام 1402هـ / 1982م كانت لي بعد تعييني بشهور رحلة أولى إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في الدورة القصيرة لتدريب معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة الملك سعود بالرياض ، فأقمتُ بها أكثر من ثلاثة شهور ، وعرفتُ الرياض معرفةً تكاد تكون جيدة، وتجوّلتُ في أحيائها وتمشّيتُ على شوارعها، وتطوّفتُ في أحيائها وحاراتها وأسواقها . وكنت أكرِّر زياراتي للزملاء والمعاصرين في الدراسة من الهنود العاملين بالمدينة . وكان فيهم الأخ الأستاذ محمد أسعد الإسرائيلي الذي كان يعمل – مثل عدد كبير من خريجي دارالعلوم / ديوبند و دارالعلوم لندوة العلماء – بشركة «سايسوريكس» التي كانت تهتم بتدوين وثائق وزارة الدفاع السعودية . وكان مديرها ومالكها مسلمًا هنديًّا متخرجًا من جامعة المسلمين بـ«عليجراه» تجنّس بأمريكا ، فكانت تُعْرَف بشركة أمريكية . ومن هنا وَظَّفت كثيرًا من متخريجي المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية بالهند ، كان على رأسهم خريجو جامعة ديوبند و دارالعلوم ندوة العلماء .

      كان الأستاذ السنبهلي يسكن بمبنى 12 للشركة الذي كان ضمن المباني العديدة التي استأجرتْها بداخل مدينة الرياض لإسكان موظفيها من غير ذوي العائلات . ومن حسن حظّي أن المبنى 12 كان على غلوة من المبنى الذي كانت جامعة الملك سعود تقيم فيه حصص الدورة القصيرة لمعلمي اللغة العربية . كما كانت تجري فيه فصول معهد اللغة العربية ، علمًا بأن الجامعة كانت آنذاك تسير في المباني المنتشرة داخل مدينة الرياض ، وكانت بعضها ملكًا للجامعة وبعضها مُسْتَأْجَرَةً من قبلها . وكانت المدينة الجاميعة الواقعة اليوم بالدرعية ، تحت البناء ، ولكنّ بعضَ المباني السكنية كانت قد تَمَّ بناؤها ، فكان كثيرٌ من الطلاب يسكنونها ، وكنا نحن الطلاب الهنود من الذين يسكنونها و يحضرون الحصص الدراسية المقامة بالمباني الكائنة بالمدينة ، وكانت تجري حافلات جامعية كثيرة بين الدرعية والمباني الحصصية منذ الصباح الباكر إلى نحو منتصف الليل .

     فلكون سكن الأستاذ قريبًا جدًّا من معهدنا ، كنت أغتنمه وأزوره من حين لآخر، ولاسيّما لأنه كان يسكن معه في غرفته بعض خلّص أصدقائنا من «أعظم جراه» وغيرها بالهند . وكنت أقضى معهم معظم أيام الخميس والجمعة والليالي المتخللة بينهما. وكانت فرصةً جميلة للتعرف على الأستاذ السنبهلي وأسلوب تفكيره وتعامله مع القضايا الإسلامية التي بدأت تفغر فاها بشكل رهيب منذ ذاك الوقت ؛ وإن كانت أمريكا لم تهجم بشكل مباشر على دولة إسلامية أو عربية ولم تحتلَّها عسكريًّا ؛ ولكنها كانت قد احتلّتها من ذي قبل اقتصاديًّا وإداريًّا وتخطيطيًّا واستراتيجيًّا . وكان المسلمون الأجانب المقيمون للعمل بالرياض وبأرجاء المملكة من شبه القارة الهندية يدركون ذلك ، ويتأذّون أنذاك أيضًا كثيرًا، ويتألّمون من تقلّب أمريكا ومن ورائها اللوبي الصهيوني بمكره ودهائه في بلاد العرب والإسلام التي هي حقًّا إرث ورثه المسلمون من محمد وصحابته وأتباعهم وتابعيهم ومن بعدهم .

     في أواخر رجب 1403هـ عدتُ من الرياض، ثم عَمِيَتْ عليّ أخبارُ الأخ السنبهلي سوي تحيات تبادلتُها معه مرةً أو مرتين عن طريق بعض القادمين من وإلى الرياض . ولم أدرِ متى غادرَ الرياضَ إلى الهند ؛ ولكني تمَّ بيني وبينه لقاء مفاجئ منذ عشر سنوات بالبهو الخارجي بفندق «تاج بيلس» (قصر التاج) بدهلي الجديدة بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني التي تعقدها السفارة السعودية بأحد الفنادق كل عام يوم 23/ سبتمبر . وسررتُ جدًّا حيث أتيح لي أن نتلاقى بعد طولِ فراق ، ولم تكن هناك فسحة لأستفسره عن أحواله وعمله بالهند بعد عودته من الرياض ، لأن حلول ميعاد انعقاد الاحتفال عَاجَلَتْنَا ، وبعد انتهائه غَيَّبَه الزّحامُ فلم أَرَه لأودّعه . ثم لم تجمعني وإيّاه مناسبة ، ولم أسمع عنه خبرًا سوى أنّه دائم النشاط في الكتابة والتأليف متحرِّكاً ضمن منظمة «الجماعة الإسلامية» المعروفة محليًّا وعالميًّا .

     في الفترة ما بين السبت – الاثنين : 15-17/ صفر 1421هـ الموافق 20-22/ مايو 2000م عقدت منظمة الخريجين القدامى من الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند ، المتخذة مقرَّها بدهلي ندوةً علميّةً بملعب «تال كتوره» بدهلي الجديدة . من أجل داء السُّكري العضال وعوارضه المتزايدة ، اكتفيتُ بحضور جلستها الافتتاحية التي عُقِدَتْ بالملعب المذكور . ولم أتمكَّن من حضور الجلسات العلمية التي تَلَتْها والتي عُقِدَتْ بقاعة المؤتمرات بجامعة «همدرد» وقُدِّمت فيها أبحاثٌ قيِّمة حول حياة الإمام محمد قاسم النانوتوي (1248-1297= 1832-1880) المؤسس لجامعة ديوبند، وحول مكانته العلمية ومآثره الفكرية والدعوية والتعليمية . وقد قدّم الأخ الأستاذ محمد أسعد الإسرائيلي بحثه الضافي الثمين جدًّا في الجلسة العلمية الثالثة ، التي عُقِدَت تحت رئاسة الشيخ فضيل الرحمن هلال العثماني المفتي بالبنجاب الهندية وأدارها الشيخ الباحث الإسلامي المعروف نورالحسن راشد الكاندهلوي . وأجمع جميعُ حضور الندوة من الكتاب والباحثين والمؤرخين والعلماء والمفكرين أن بحث الأستاذ السنبهلي بَذَّ قامةً وقيمةً جميعَ الأبحاث التي قُدِّمَتْ في جلسات الندوة . وظلّ ذكرُه جاريًا على الألسنة مدّة طويلة . ونما إلى سمعي وأنا في ديوبند ، فدعوتُ له وقلتُ : إنّ انتماءه إلى جامعته الأمّ لم يضعف ، وأن حبّه لها لم يخلّ به هيمانُه في كثير من جهات الفكر والعمل . وبقيتُ على هذا، حتى سمعتُ بوفاته وقرأتُ نعيَه في بعض الصحف والمجلات ، عندما عدتُ إلى «ديوبند» من وطني بولاية «بيهار» الذي زرته بعد سنوات؛ فأسفت جدًّا وحزنتُ على معاجلة الموت إيّاه ؛ لأنّه كان من الجيل المؤهل المعاصر الذي خرّجته دارالعلوم / ديوبند . ولا نقول إلاّ ما يُرْضِي ربّنا ، فإن لديه أجلاً لكل حيّ لا يفلته إذا جاء . وفّاه الله الأجر ، وأدخله جنّةَ الخلد ، وألهم أهله وذويه الصبرَ والسلوانَ .

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.